بشراكة بين دار (كتّاب) الإماراتية و(شاندونغ للنشر) الصينية تم إطلاق (دار منشورات الأدب الصيني) في معرض أبوظبي للكتاب، وفي رحاب هذا التثاقف الإماراتي الصيني سوف نقرأ في كل شهر كتاباً من الأدب الصيني، وسيقرأ الصينيون ما يكتبه أدباؤنا.

تنامي الاهتمام الثقافي بموازاة الاهتمام العلمي في البلدين الإمارات والصين، يحيلنا إلى حقيقة أساسية وأزلية، وهي أن أية حضارة من الحضارات الإنسانية مهما بلغ تطورها الصناعي أو العلمي أو بناؤها التحتي لا يمكن أن تستكمل شروطها إلّا بما تعطيه وتقدمه من نتاج ثقافي يتمثل في العلوم الإنسانية والآداب والفنون، فللحضارة جناحان، الأول هو البناء العلمي وما ينتج عنه من معطيات، وثانيهما البناء الثقافي وما ينتج عنه من معطيات.

فإن كانت المردودات العلمية للحضارة بناء مادياً وتقنياً، فهذا المردود يبقى ناقصاً دون الحوافز والمعطيات الأخلاقية والإنسانية التي هي من نتائج المدخلات الثقافية كالتعليم والتراث والقيم الدينية الصحيحة والآداب والفنون وغير ذلك. وما يعانيه عصرنا اليوم هو توق الكثير من الدول إلى البناء المادي دون الالتفات للبناء القيمي فكثرت الحروب واختلت التوازنات.

وأعود إلى الدولة العملاقة (الصين)؛ دولة احتلت مكانتها العالمية لاعتبارات عديدة جعلتها من الدول المتقدمة صناعياً وتجارياً، ودخلت صناعاتها كل بيت في العالم تقريباً. وللصين حضارة ضربت جذورها في عمق التاريخ الإنساني وتركت إرثاً كبيراً من التراث المادي والروحي متمثلاً بالآداب والفنون والثقافات وغير ذلك.

انطلقت دولة الصين بعد الحرب العالمية الثانية خاصةً بصناعتها وزراعتها وتجارتها حتى وصلت ما وصلت إليه اليوم، متجاوزة المعايير الأخرى للحضارة باستثناء التعليم الذي ظلت محافظة على أرجحيته فلا توجد فيها أميةٌ تذكر.

في العقود الأربعة الأخيرة بدأت الصين تراجع سجلها الحضاري، وأدركت أن للعلوم الإنسانية والآداب والفنون ما يكمل لها اشتراطات الحضارة ويعزز بين أبنائها الهوية الوطنية كما يعزز حضورها التاريخي والعالمي.

وبدأ العهد الجديد في الصين يقدم نفسه باعتباره الوريث الشرعي للثقافة الصينية التقليدية وبدأت المدارس تمجد الولاء للوطن من خلال الأناشيد التي يشدوها الأطفال أمام صورة كونفشيوس، وصارت هناك برامج ترعى التقاليد الثقافية المتوارثة، كما برزت ظاهرة الاحتفال بالأعياد الوطنية، والمناسبات الشعبية، وجرى الاهتمام بالأدب وإحياء الشعر الكلاسيكي والخط والحرف الشعبية.

الصين أدركت أن البناء القيمي من خلال التراث والآداب والفنون مهم لصنع الهوية الصينية وحمايتها من العولمة وآثارها فكان مشروع (سكب الروح) عبر الكتب المدرسية بما يغذي الأجيال بمعاني المواطنة الحقة والولاء الرفيع المستوى للوطن، وانتشرت عبارة كونفشيوس (استمع إلى والديك في المنزل وإلى معلمك في المدرسة، وإلى رئيسك في العمل، وإلى الدولة في الشارع، وذلك لكي تكون سعيداً)، كما شجعت الصين الفنانين والأدباء على استلهام روح التراث مع المعاصرة.

لقد انتعشت الآداب والفنون في الصين خلال العقود الأخيرة فكان لها حصة بجائزة نوبل للآداب عام 2000، فاز بها الكاتب الصيني غاو شينغجيان عن روايته الطويلة (جبل الروح). وفي عام 1982 أنشأت الصين أكبر مكتبة في العالم هي مكتبة قوانشو بمساحة 17 ألف متر مربع وفي عام 2006 تم تحديثها لتكون مساحتها 98000 ألف متر مربع وعلى ارتفاع 50 متراً وتحتوي على 4 ملايين مجلد ولها نظرة مذهلة من الداخل والخارج فهي اليوم من أهم المكتبات في العالم. ومؤخراً تم تدشين مدينة للسينما بكلفة 8 مليارات دولار لجلب الاستثمارات السينمائية ودعم السينما الصينية.

الحديث عن التطور الثقافي في الصين طويل ولا تكفيه صفحات وهو يعزز الحقيقة التي أدركتها الصين، والتي بدأنا الحديث بها، وهي أن أية حضارة تبقى ناقصة مهما بلغ تقدمها المادي، وتتعزز وتكتمل بالبناء الإنساني والقيمي. وقد أدركت الإمارات ذلك، ليس الآن، بل منذ تأسيس الدولة على يد والدنا الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، وهو القائل «إن العلم والثقافة أساس تقدم الأمة وأساس الحضارة»، فذكر الجناحين اللذين تحلّق بهما الدول لتصنع الحضارة وهما العلم والثقافة معاً، وهذا ما تحرص عليه قيادتنا الرشيدة وهي تصنع لنا حضارةً نباهي بها الأمم.